کد مطلب:370246 یکشنبه 20 خرداد 1397 آمار بازدید:619

الفصل الخامس: سیاسات علی (علیه السلام) فی العراق












الصفحة 90












الصفحة 91


علی (علیه السلام) یفقه العراقیین:


هذا وقد بذل علی (علیه السلام) جهوداً كبیرة فی تعلیم أهل العراق، وتثقیفهم، حتى لیقول لهم: «وركزت فیكم رایة الإیمان، وعرفتكم على حدود الحلال والحرام»(1).


كما أن أبا أیوب الأنصاری یقول لأهل العراق: «إن الله قد أكرمكم به كرامة ما قبلتموها حق قبولها، حیث نزل بین اظهركم ابن عم رسول الله (صلى الله علیه وآله)، وخیر المسلمین، وأفضلهم وسیدهم بعده، یفقهكم فی الدین الخ..»(2).


كما أنه (علیه السلام) كان یعمل على أن یوضح لهم الضوابط العامة للسیاسة الإسلامیة، ومنطلقاتها، وأهدافها.


وتلك كلماته، وخطبه زاخرة بهاتیكم التعالیم، ومشحونة بتلكم المعانی.. ولا مجال لاستقصاء النقاط التی كان أمیر المؤمنین (علیه السلام) یهتم بالتركیز علیها، فإن ذلك یحتاج إلى توفر تام، وجهد مستقل.


____________



(1) نهج البلاغة ـ شرح عبده ج1 ص153.


(2) الإمامة والسیاسة ج1 ص152/153.













الصفحة 92


ولكننا نلم ببعض النصوص التی تشیر إلى شیء من ذلك، فنقول:


عدل علی (علیه السلام) وموقف زعماء القبائل:


قال أبو أیوب الأنصاری للعراقیین، المتقاعسین عن أمر الجهاد: «.. عباد الله، ألیس إنما عهدكم بالجور والعدوان أمس، وقد شمل العباد، وشاع فی الإسلام؛ فذو حق محروم، ومشتوم عرضه، ومضروب ظهره، وملطوم وجهه، وموطوءٍ بطنه وملقى بالعراء، فلما جاءكم أمیر المؤمنین صدع بالحق، ونشر العدل، وعمل بالكتاب، فاشكروا نعمة الله علیكم، ولا تتولوا مجرمین الخ..»(1).


نعم.. لقد عرف الناس كلهم العدل، وذاقوا طعم الحق والإیمان، فی عهد أمیر المؤمنین (علیه السلام)، الذی أفهم الناس جمیعاً، ولاسیما رؤساء القبائل، وسواهم من أهل الأطماع، وأصحاب اللبّانات: أنه رجل لا مطمع فیه لأحد.. وأنه لم ولن یعمل بغیر الحق.. وأصبح واضحاً للجمیع: أنه لم یكن لیقیم وزناً یذكر للزعامات القبلیة، ولا یبنی علاقاته معها إلا على أساس ما تملكه من التزام، ومن معان إنسانیة نبیلة، وما تقدمه من خدمات فی سبیل الدین والإنسان، فلم یكن لیمیز هذا على حساب ذاك، ولا یعطی أحداً لیحرم غیره، ولم یكن لیطلب النصر بالجور.


وحینما قال له الأشتر: «یا أمیر المؤمنین، إنا قاتلنا أهل البصرة بأهل البصرة والكوفة، ورأی الناس واحد، وقد اختلفوا بعد، وتعادوا، وضعفت


____________



(1) الغدیر ج9 ص125 و359 ونهج السعادة ص529 والأمالی ص149 وعن الإمامة والسیاسة ج1 ص112 وفی طبعة أخرى 128 وعن جمهرة الخطب ج1 ص236.













الصفحة 93


النیة وقل العدد. وأنت تأخذهم بالعدل، وتعمل فیهم بالحق، وتنصف الوضیع من الشریف، فلیس للشریف عندك فضل منزلة على الوضیع، فضجت طائفة ممن معك من الحق إذ عمّوا به، واغتموا من العدل إذ صاروا فیه. ورأوا صنائع معاویة عند أهل الغناء والشرف؛ فتاقت أنفس الناس إلى الدنیا، وقل من لیس للدنیا بصاحب. وأكثرهم یجتوی الحق ویشتری الباطل، ویؤثر الدنیا. فإن تبذل المال یا أمیر المؤمنین تمل إلیك أعناق الرجال. وتصف نصیحتهم لك، وتستخلص ودهم..»(1).


وفی نص آخر: أن طائفة من أصحابه (علیه السلام) مشوا إلیه؛ فقالوا: یا أمیر المؤمنین، أعط هذه الأموال، وفضل هؤلاء الأشراف من العرب، وقریش على الموالی والعجم، واستمل من تخاف خلافه من الناس وفراره.. وإنما قالوا له ذلك لما كان معاویة یصنع فی المال.


فقال لهم: «أتأمروننی أن أطلب النصر بالجور؟ لا والله لا أفعل ما طلعت شمس الخ..»(2).


وقالت الصدیقة الطاهرة (علیها السلام): «نقموا منه والله نكیر سیفه، وشدة وطأته، ونكال وقعته، وتنمره فی ذات الله»(3).


«وروی عن علی بن محمد بن أبی سیف المدائنی، عن فضیل بن


____________



(1) شرح النهج للمعتزلی ج2 ص197.


(2) شرح النهج للمعتزلی ج2 ص203 والإمامة والسیاسة ج1 ص153.


(3) البحار ج43 ص158 و159 و160 و162 عن معانی الأخبار والاحتجاج، وأمالی الشیخ الطوسی، وكشف الغمة، وابن أبی الحدید عن الجواهری، وكشف الغمة ج1 ص492 والاحتجاج ج1 ص147 وشرح النهج المعتزلی ج16 ص233 والعوالم ص236 و238 و240.













الصفحة 94


الجعد، قال: آكد الأسباب فی تقاعد العرب عن أمیر المؤمنین (علیه السلام) أمر المال؛ فإنه لم یكن یفضل شریفاً على مشروف، ولا عربیاً على عجمی، ولا یصانع الرؤساء، وأمراء القبائل، كما یصنع الملوك، ولا یستمیل أحداً إلى نفسه»(1).


نعم.. إن عدل علی (علیه السلام) قد أحفظ الزعامات القبلیة، وأهل اللبانات والأطماع، واستطاع معاویة بأحابیله أن یصطاد طائفة منهم، ویكید بهم علیاً.. وفرّ بعضهم إلیه الأمر الذی كانت له تأثیرات سیئة على نفوس الناس، ولاسیما عشائرهم.


وكلنا یعلم: أن مجمتع العراق لم یكن یتعامل مع الأمور من منطلق الفكر، والقناعات الوجدانیة، والشعور بالمسؤولیة الشرعیة، وإنما من منطلق قبلی جاهلی، یعطی زعیم القبیلة كل الخیارات والاختیارات، وینفذ أوامره وإرادته، مهما كانت مخالفة لقناعات الفرد، وحتى لعواطفه وأحاسیسه.


وإذا كان زعماء القبائل قد وافقوا فی بعض الظروف على نصرته (علیه السلام)، ومحاربة عدوه وعدوهم؛ فإن ذلك یعود إلى خوفهم من معاویة، إن ظفر بهم.. ومن أجل الوفاء بالبیعة التی كانت له (علیه السلام) فی أعناقهم. أو طمعاً فی الغنائم، أو فی الولایات والریاسات، أو حمیة، وعصبیة، أو لغیر ذلك من عوامل، لربما یجد المتتبع لها بعض الشواهد.


ولكن مما لاشك فیه هو: أن أمیر المؤمنین (علیه الصلاة والسلام)، وإن لم یستطع أن یرضی الزعامات القبلیة، إلا أنه كان أحیاناً یتعامل مع


____________



(1) شرح النهج للمعتزلی ج2 ص197 وراجع: الحیاة السیاسیة للإمام الحسن (علیه السلام) ص77 عن مصادر كثیرة وحیاة الشعر فی الكوفة ص169.













الصفحة 95


الناس من خلال تلك الزعامات، حیث لا یكون ثمة خیارات أخرى، تماماً كما كان رسول الله (صلى الله علیه وآله) وسلم یحاول أن یستخدم الزعامات القبلیة من أمثال أبی سفیان فی تحقیق أهداف الإسلام العلیا، وإن كان لم یكن یلزم نفسه بمنحها أیة امتیازات على حساب الحق والعدل، ومصلحة الإسلام العلیا، وخیر المسلمین.


وهكذا.. ومن هذا المنطلق بالذات نجد أمیر المؤمنین (علیه السلام) فی أول أمر «الخوارج» قد دعا صعصعة بن صوحان العبدی، وكان قد وجهه إلیهم، وزیاد بن النضر الحارثی، مع عبد الله بن العباس؛ فقال لصعصعة: «بأی القوم وجدتهم أشد إطافة؟.


فقال: بیزید بن قیس الأرحبی.


فركب علی (علیه السلام) إلیهم إلى حروراء، فجعل یتخللهم، حتى صار إلى مضرب یزید بن قیس فصلى فیه ركعتین، ثم خرج فاتكأ على قوسه، وأقبل على الناس، ثم قال الخ..»(1).


ولا بأس بالتأمل هنا فی سرّ كونه (علیه السلام) قد صلى ركعتین فی مضرب یزید بن قیس.


نعم.. إن أمیر المؤمنین وإن لم یستطع أن یرضی الزعامات القبلیة إلا أن سیرته (علیه السلام) وعدله قد نال مختلف طبقات الأمة، وذاق الناس طعم الإیمان، وحلاوة الإسلام، وحل لهم مشاكلهم، ورفع من مستوى


____________



(1) الكامل للمبرد ج3 ص211 وبهج الصباغة ج7 ص111 عنه. والكامل لابن الأثیر ـ 3 ص328 وتاریخ الطبری ج4 ص41 منشورات الأعلمی حوادث سنة 37 ذكر الخبر عن اعتزال الخوارج علیاً وشرح النهج للمعتزلی 2/278/279.













الصفحة 96


نضجهم ووعیهم، حتى لیقول الكمیت رحمه الله:


 













ونعم طبیب الداء من أمر أمة تواكلها ذو الطب والتطبــب
ونعم ولی الأمر بعد ولیــه ومنتجع التقوى، ونعم المؤدب



ویقول رحمه الله تعالى عن أئمة أهل البیت صلوات الله وسلامه علیهم أجمعین:


 





















ساسة لا كمن یرى النــاس سواء ورعیة الأنعــــام
لا كعبد الملیك أو كولیـــد أو سلیمان بعد أو كهشــام
رأیه فیهم كرأی ذوی الثلـة فی الثائجات جنح الظـلام
جزّ ذی الصوف وانتقاء لذی المخة نعقاً ودعدعاً بالبهـام



ویقول رحمه الله تعالى عن أمیر المؤمنین علی (علیه السلام):


 









والوصی الذی أمال التجوبی به عرش أمة لانهـــدام



التجوبی: هو ابن ملجم.


ویقول أیضاً:


 

















قتلوا یوم ذاك إذ قتــلوه حكماً لا كغابر الحكــــــام
راعیاً كان مسجحاً ففقدناه وفقد المسیم هلك الســـــوام
نالنا فقده ونال سوانــا باجتداع من الأنوف اصطــلام



علی (علیه السلام) یعرف الناس بالإمامة:


وأما فیما یرتبط بتعریف الناس على أمر الإمامة، وبیان الزیف والافك الذی مورس تجاهها فقد حاول أمیر المؤمنین (علیه الصلاة والسلام) بكل وسیلة، أن یعرف الناس على الحق فیما یرتبط بالخلافة بعد رسول الله (صلى الله علیه وآله) وسلم.. وأن یعطی الناس صورة واضحة عن معنى












الصفحة 97


الإمامة وشؤونها، وشروط الإمام وما إلى ذلك.


وقد بلغه: أن الناس یتهمونه فیما یذكره من تقدیم النبی (صلى الله علیه وآله) وسلم له (علیه السلام)، وتفضیله على الناس؛ فقال (علیه السلام): «أنشد الله من بقی، ممن لقی رسول الله صلى الله علیه، وسمع مقاله فی یوم غدیر خم»، ثم تذكر الروایة شهادة اثنی عشر صحابیاً له(1).


وفی بعض النصوص: أنهم كانوا بدریین(2).


وفی نص آخر: أنهم كانوا ثلاثین رجلاً(3).


ویبدو أن ذلك قد كان بعد حرب الجمل، أی بعد سنة 36ه. وحدیث المناشدة هذا معروف، ومشهور جداً.. ویظهر أن التعرف على أكثر الرواة لحدیث الغدیر كان مبدؤه هو ذلك الیوم بالذات.


كما أنه (علیه السلام) قد استشهد لحدیث الغدیر مرة أخرى فی صفین نفسها(4) ثم تبع ذلك استشهاد الإمام الحسین (علیه السلام) لحدیث الغدیر فی منى، ثم استشهادات أخرى، ذكرها العلامة الأمینی فی كتابه القیّم: الغدیر ـ ج1 ـ ص166 و186 عن مصادر كثیرة جداً. فلیراجعها من أحب.


____________



(1) شرح النهج للمعتزلی ج2 ص288 / 289 وفی هامشه عن الریاض النضرة ج2 ص169 وراجع: كتاب بحوث مع أهل السنة والسلفیة، ففیه مصادر كثیرة، ودلائل الصدق. والبدایة والنهایة، وغیر ذلك.


(2) الغدیر ج1 ص195 عن كتاب: سلیم بن قیس. ومسند أحمد ج1 ص88.


(3) مسند أحمد ج4 ص370 ومجمع الزوائد ج9 ص104 والغدیر ج1 ص174/175 عن مصادر أخرى.


(4) راجع: الغدیر ج1.













الصفحة 98


علم الإمامة عند علی (علیه السلام):


كما أنه (علیه السلام) قد بذل محاولات وجهوداً كبیرة، من أجل تعریف الناس وإفهامهم: أن الرسول الأعظم (صلى الله علیه وآله) وسلم قد اختصه دون كل أحد بالعلوم والمعارف، وأنه هو الذی یملك علم الإمامة حقاً دون سواه؛ فكان یكثر من قول: «سلونی قبل أن تفقدونی». كما أنه كان یكثر من الاخبارات الغیبیة، حتى بلغت حداً جعل بعض الناس یتهمونه بالكذب [والعیاذ بالله]. وقد سمع غلام [وهو أعشى همدان] حدیثه فاعتبره حدیث خرافة(1).


كما أن قوماً كانوا تحت منبره قالوا عنه، بعد أن ذكر لهم الملاحم: «قاتله الله، ما أفصحه كاذباً»(2).


وجرى له مرة أخرى ما یشبه ذلك أیضاً(3).


كما أنه (علیه السلام) قد خطب الناس وأخبرهم: أنه لو كسرت له الوسادة لحكم بین أهل التوراة بتوراتهم، وبین أهل الإنجیل بإنجیلهم، وبین أهل الفرقان بفرقانهم «وما من آیة فی كتاب الله، أنزلت فی سهل وجبل، إلا وأنا عالم متى أنزلت، وفیمن أنزلت».


فقال رجل من القعود تحت منبره: «یا لله، وللدعوى الكاذبة»(4).


وكان میثم التمار سمع من أمیر المؤمنین (علیه السلام) بعضاً من علم وأسرار خفیة من أسرار الوصیة «فكان میثم یحدث ببعض ذلك فیشك قوم من


____________



(1) شرح النهج للمعتزلی ج2 ص289.


(2) المصدر السابق ج6 ص136.


(3) المصدر السابق.


(4) المصدر السابق.













الصفحة 99


أهل الكوفة، وینسبون علیاً (علیه السلام) فی ذلك إلى المخرقة والإیهام والتدلیس الخ..»(1).


كما انه هو نفسه (علیه الصلاة والسلام) قد ذكر أنهم یقولون فیه ذلك، فهو یقول: «والله، لو أمرتكم، فجمعتم من خیاركم مئة، ثم لو شئت لحدثتكم إلى أن تغیب الشمس، لا أخبركم إلا حقاً، ثم لتخرجن، فتزعمن: أنی أكذب الناس وأفجرهم»(2).


ولم یخل نهج البلاغة من إشارة لهذا الأمر أیضاً، ففی خطبة له یخاطب بها أهل العراق: «ولقد بلغنی أنكم تقولون: علی یكذب. قاتلكم الله..»(3).


وقال المعتزلی فی شرح قوله (علیه الصلاة والسلام): «أترانی أكذب على رسول الله (صلى الله علیه وآله) والله، لأنا أول من صدقه؛ فلا أكون أوّل من كذب علیه»: «هذا كلام قاله (علیه السلام) لما تفرس فی قوم من عسكره: أنهم یتهمونه فیما یخبرهم عن النبی (صلى الله علیه وآله) من اخبار الملاحم والغائبات، وقد كان شك منهم جماعة فی أقواله، ومنهم من واجهه بالشك والتهمة»(4).


____________



(1) شرح النهج للمعتزلی ج2 ص291.


(2) المصدر السابق ج6 ص128 عن الغارات للثقفی.


(3) نهج البلاغة، الخطبة رقم 70 حسب ترقیم المعتزلی، والاختصاص ص155 عن كتاب ابن دأب، والإرشاد للمفید ص162 والاحتجاج ج1 ص255.


(4) شرح النهج للمعتزلی ج2 ص286.













الصفحة 100


كما أن مالك بن ضمرة كان یخبر عن علی (علیه السلام) بأمر قاله بالنسبة إلیه، وإلى اثنین آخرین «فكان من الناس من یهزأ به ویقول: هذا من أكاذیب أبی تراب»(1).


وعند المجلسی: أنه أخبره بما یجری على هانئ بن عروة فكان بعض الناس یهزأ الخ..(2).


وقال المعتزلی: «وكان كثیراً ما یخبر عن الملاحم والكائنات، ویومئ إلى أمور أخبره بها رسول الله (صلى الله علیه وآله)، فیقول المنافقون من أصحابه: یكذب، كما كان المنافقون الأولون فی حیاة رسول الله (صلى الله علیه وآله) یقولون عنه: یكذب!!»(3).


وعنه (علیه السلام) أنه قال: بعد أن ذكر (علیه السلام): أنه هو فقأ عین الفتنة ولم یكن یجرء علیها غیره: «.. فاسألونی قبل أن تفقدونی، فوالذی نفسی بیده لا تسألونی عن شیء، فیما بینكم وبین الساعة، ولا عن فئة تهدی مئة، وتضل مئة، إلا أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها، ومناخ ركابها، ومحط رحالها، ومن یقتل من أهلها قتلاً، ومن یموت منهم موتاً»(4).


قال المعتزلی: «ولقد امتحنا إخباره فوجدناه موافقاً ».


وبعد أن ذكر طائفة كبیرة من إخباراته تلك قال: «لو أردنا


____________



(1) المصدر السابق ج2 ص295.


(2) البحار ج8 ص677 ـ ط حجریة.


(3) المصدر السابق ج6 ص128.


(4) نهج البلاغة ج1 ص183.













الصفحة 101


استقصاءه لكسرنا له كراریس كثیرة»(1).


هذا، وقد اعتمد (علیه السلام) فی تعامله مع «الخوارج» على الاخبارات الغیبیة بصورة ظاهرة ولافتة، كما سنرى فی ما یأتی من فصول.


لقد ملأتم قلبی قیحاً:


والذی تجدر الإشارة إلیه هنا هو: أن أمیر المؤمنیین (علیه السلام) حین أراد أن یخبر الناس بالغیب، لم یقتصر على جعلهم یتصورونه، بل تجاوز ذلك، إلى مرحلة الحس، فجعلهم یلمسونه بأنفسهم ویمیزون فیه الصدق من الكذب، والحق من الباطل.


ولكن المفاجأة الكبرى نجدها، حین نرى أن ذلك لم یكن یترك أثره المطلوب حتى إنه (علیه السلام) بعد أن أظهر لهم وأراهم بأم أعینهم الآیات والشواهد الحسیة على صدق إخباراته الغیبیة فی أمر «الخوارج» بالذات ثم خطب الناس بالنخیلة، فقد: «قام إلیه رجل منهم، فقال: ما أحوج أمیر المؤمنین الیوم إلى أصحاب النهروان، ثم تكلم الناس من كل ناحیة، ولغطوا»(2).


وما أشبه هذه القضیة بما جرى لموسى مع بنی إسرائیل، حیث إنهم حین فلق الله البحر لموسى، فصار كل فرق كالطود العظیم. ونجاهم الله من فرعون. وخرجوا من البحر وجدوا قوماً یعكفون على أصنام لهم، فقالوا لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة.


ویحق لعلی (علیه السلام) بعد هذا أن یقول لأهل العراق الذین لم


____________



(1) راجع: شرح النهج للمعتزلی ج7 ص48 و49 و50.


(2) الشیعة فی التاریخ ص42 عن شرح النهج للمعتزلی ج1 ص146.













الصفحة 102


یعرفوا إسلام علی (علیه السلام): لقد ملأتم قلبی قیحاً. وأن یتمنى أن یصارفه معاویة فیهم مصارفة الدینار بالدرهم، فیأخذ منهم عشرة، ویعطیه واحداً.. إلى آخر ما قدمناه من نصوص.


متى بدأ التشیع فی الكوفة:


ومن الواضح: أن الكوفة بل والعراقیین عموماً ما كانوا قبل أن یأتیهم أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب صلوات الله وسلامه علیه یعرفون علیاً، فضلاً عن غیره من أهل البیت (علیهم السلام)، فضلاً عن أن یكون له (علیه السلام) نفوذ أو امتداد سیاسی فی ذلك المحیط الذی قدمنا بعض ما یشیر إلى حالاته العامة.


بل یذكر المعتزلی فی شرحه لنهج البلاغة أنهم ما كانوا یعرفون عن علی (علیه السلام) إلا أنه ابن عم النبی (صلى الله علیه وآله)، وزوج ابنته(علیه السلام).


وكانت سیاسة الحكام الذین فتحوا العراق قبل علی (علیه السلام) هی إخماد ذكر علی (علیه السلام)، ومحوه من ذاكرة الأمة.


وظهر على الساحة ـ لأسباب مختلفة ـ آخرون، استأثروا باهتمام الناس. حسبما وصفه لنا أمیر المؤمنیین (علیه السلام) نفسه، حیث یقول: «.. فتأكد عند الناس نباهة قوم وخمول آخرین، فكنا نحن ممن خمل ذكره، وخبت ناره، وانقطع صوته وصیته، حتى أكل الدهر علینا وشرب»(1).


____________



(1) شرح نهج البلاغة للمعتزلی ج 20 ص 299.













الصفحة 103


وقد تحدثنا عن سیاستهم التی مارسها أعداؤه (علیه السلام) والقاضیة بتجهیل الناس بمقام علی (علیه السلام) فی كتابنا الحیاة السیاسیة للإمام الحسن (علیه السلام) ـ ص86/90 ـ طبع دار السیرة.


ولكن مما لاشك فیه هو أن خلافة أمیر المؤمنین (علیه السلام) وكونه عاش فی العراق هذه المدة الطویلة قد أسهم إلى حدّ كبیر فی إیجاد مناعة نسبیة فیما یرتبط بالتأثر بالإعلام الهدام، الذی كانت قریش والأمویون، ومن لف لفهم، ومن جاء بعدهم یمارسونه ضد أمیر المؤمنین وأهل بیته (علیهم السلام) وشیعتهم الأبرار.


وبدأ العراق بعد أن عرف شیئاً من الحقیقة، ورأى بنفسه سیرة أمیر المؤمنین (علیه السلام) فی نفسه وفی أمته، ورأى سیرة خصومه، والمتحاملین علیه، وعرف مكانة علی (علیه السلام)، ومناقبه وفضائله التی جاءت على لسان النبی (صلى الله علیه وآله) وسلم، ونطق بها القرآن ـ نعم.. بعد ذلك بدأ العراق، ولاسیما الكوفة یتجه نحو التمسك بأهل البیت (علیهم السلام)، والاعتراف بحقهم، ثم الاعتقاد بإمامتهم الإلهیة، وعلى رأسهم أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه.


وقد بدأ التشیع یتنامى ویقوى فی الكوفة بصورة تدریجیة خصوصاً فی أواخر خلافة أمیر المؤمنین (علیه السلام) وبعد وفاته. حیث ذاق العراقیون طعم العدل وعرفوا معنى الزهد والالتزام بأحكام الدین. وعرفوا بتعلیم أمیر المؤمنین (علیه السلام) وأصحابه الأخیار لهم، الكثیر الكثیر من حقائق الإسلام، وتعالیمه ومعارفه وسیاساته، وما إلى ذلك.


وأثمرت جهود علی وأهل البیت (علیهم السلام)، وبدأت بذرة التشیع تتنامى فی الكوفة منذئذٍ، حتى اصبحت الكوفة علویة الاتجاه، كما












الصفحة 104


یقولون.


بل لقد قال الأصمعی: إن الكوفة صارت علویة من یوم استوطنها علی (علیه السلام)(1).


وعلى حد تعبیر ابن عبد ربه: «الكوفة علویة؛ لأنها وطن علی رضی الله عنه وداره»(2).


ولكن من المعلوم أن هذه الثمرة قد جاءت ـ كما قلنا ـ فی وقت متأخر بالنسبة لخلافة أمیر المؤمنین (علیه السلام) أما فی عهده، فقد قاتل عدوه، ولم یكن معه خمسون رجلاً یعرفونه حق معرفته، وحق معرفة إمامته..


وعلیه فقول معمر: «عجبت من أهل الكوفة، كأن الكوفة إنما بنیت على حب علی، ما كلمت أحداً منهم إلا وجدت المقتصد منهم الذی یفضل علیاً على أبی بكر وعمر، منهم سفیان الثوری»(3).


هذا القول إنما یعبر عن حقبة متأخرة جداً عن زمن حكم أمیر المؤمنین (علیه السلام)، كما یشیر إلیه استشهاده بما یذهب إلیه الثوری، الذی كان یعیش فی القرن الثانی الهجری.


ویشیر إلى ذلك أیضاً: أن عبد الله بن مطیع، الوالی من قبل ابن الزبیر أراد أن یسیر فیهم بسیرة عثمان وعمر، فرفضوا ذلك وقالوا: إنهم یرضون بأن یسیر فیهم بسیرة علی (علیه السلام)(4).


____________



(1) روض الأخیار المنتخب من ربیع الأبرار ص67.


(2) العقد الفرید ج6 ص248.


(3) البدایة والنهایة ج8 ص11.


(4) أنساب الأشراف ج 5 ص220 ـ 221 والكامل فی التاریخ ج 4 ص 213 وتاریخ


=>













الصفحة 105


وعی العراقیین یضایق الحكام:


وقد كان الحكام المنحرفون یتضایقون جداً من وعی العراقیین المتنامی هذا، ولم یكن یروق ذلك لهم على الإطلاق، حتى لقد صرح معاویة حینما واجهته تلك المرأة المجاهدة، عكرشة بنت الأطرش بكلماتها القویة.. صرح بقوله: «هیهات، یا أهل العراق، نبهكم علی بن أبی طالب، فلن تطاقوا»(1).


ولكن تعاطف الكوفة مع أهل البیت (علیهم السلام) وتمنیاتهم وآمالهم بوصول بعض أهل البیت (علیهم السلام) إلى الحكم قد كانت تصطدم بالواقع الصعب وبالعقبات الكبیرة والخطیرة، وذلك حینما یلامس الواقع حیاتهم فیحاولون الهروب وتقع الكارثة.


وعلى كل حال.. فإننا نكتفی هنا بهذا القدر، إذ أننا لسنا هنا فی صدد تتبع المسیرة التاریخیة لظهور، ثم رسوخ التشیع فی العراق، وفی الأمة بصورة عامة، فإن ذلك یحتاج إلى توفر تام، ووقت طویل.


العراقیون وزهد علی (علیه السلام):


قد عرفنا فیما سبق أن من الأمور التی لا مجال لإنكارها هو أن علیاً قد ترك أثراً ظاهراً على العراقیین فی عقلیاتهم، وفی مفاهیمهم، ونفسیاتهم، وغیر ذلك من الجهات والحالات. وذكرنا آنفا قول معاویة لعكرشة بنت الأطرش.


____________



<=


الأمم والملوك ج 3 ص 490.


(1) العقد الفرید ج2 ص112 وبلاغات النساء ص104 ـ ط سنة 1972م وصبح الأعشی ج1 ص300.













الصفحة 106


«هیهات یا أهل العراق، نبهكم علی بن أبی طالب. فلن تطاقوا».


ولم یقتصر الأمر فی هذا التأثیر على الجانب السیاسی. بل هو تأثیر شامل وفاعل فی مختلف الجهات والحالات ولیست حالة الزهد والعزوف عن الدنیا بالتی تستثنى من ذلك، ویكفی أن نذكر هنا. ما قاله الدكتور یوسف خلیف:


«كان أكبر صحابی نزل الكوفة، واتخذ منها وطناً له، وحاضرة لخلافته، وهو علی بن أبی طالب، مثلاً عالیاً من أمثلة الزهد، والتقشف، بل النموذج الكامل من بین الخلفاء الأولین، والصحابة لحیاة الزهد.


وكان أهل الكوفة ینظرون إلیه على أنه مثلهم الأعلى فی كل شیء. وعلى أنه زعیمهم السیاسی، وإمامهم الروحی، فكان من الطبیعی أن یتأثروا به فی حیاتهم، وأن یتخذوا منه مثلاً یحذون حذوه، ویتأسون به فی زهده وتقشفه»(1).


فوارق بین زهد علی (علیه السلام) وزهد غیره:


وغنی عن القول: أن الزهد العراقی الذی وفد علیه علی بن أبی طالب (علیه السلام)، وتعامل معه، یختلف عن الزهد الذی نشأ برعایة علی (علیه السلام)، ومن خلال التأسی به، صلوات الله وسلامه علیه.


فقد كان زهد علی (علیه السلام) ینطلق من موقع التمازج الواعی بین المعارف الإیمانیة والفكر الصحیح، وبین المزایا الروحیة، والنفسیة، لیصوغ المشاعر والأحاسیس بصورة سلیمة وقویمة ولتتكون الشخصیة النموذج للمسلم الواعی والملتزم، والعارف بالله سبحانه، وبما یریده منه


____________



(1) حیاة الشعر فی الكوفة ص197 و198.













الصفحة 107


فی هذه الحیاة، بكل امتداداتها الصحیحة، والمتخذة على أساس عقیدی واضح وراسخ.


أما الزهد الذی واجهه علی (علیه السلام)، وتجلى فی «الخوارج»، فقد كان منشؤه الجهل، الذی انقلب إلى أشكال وحركات انتجت حالة من الغرور والصلف والعجرفة، والصدود عن الحق، وعدم التفاعل مع كلمة الحق، والخیر والصلاح.


إن الزهد الذی بثه ورعاه علی (علیه السلام)، لم یكن هروباً من المسؤولیة، ولا كان غروراً واندفاعاً غیر مسؤول. فی مواقع الجهل ومزالق الهوى.. بل كان هو الزهد الهادف والمسؤول الذی یعی بعمق حقیقة هذه الحیاة، ودوره فیها. لینطلق لبنائها على أساس الهیمنة علیها، والتحكم بها، ولیس زهده هو الخنوع والخضوع، والانسحاب من الساحة، بل هو المواجهة والتحدی والتضحیة ورفض الانحراف، ومواجهة الظلم بكل مظاهره وأشكاله. قال جولد تسیهر: «أن المیل إلى الزهد كان مرتبطاً بالثورة على السلطان القائم»(1).


نعم.. ولكنها لیست ثورة الفوضى بل ثورة العمل بالتكلیف الشرعی، والامتثال للحكم الإلهی.


التأثیر المسیحی فی الزهد العراقی:


ویحاول البعض أن یعزو زهد العراقیین إلى تأثرهم بالمحیط المسیحی الذی كان یكتنف مجتمع الكوفة(2).


____________



(1) حیاة الشعر فی الكوفة ص120 عن العقیدة والشریعة فی الإسلام ص130.


(2) حیاة الشعر فی الكوفة ص198 و199.













الصفحة 108


ولكن «الواقع ینكر ذلك، فلم یعرف الزهاد المسلمون نظام الرهبانیة المسیحی. ولم یعرفوا حیاة الأدیرة والصوامع. ولم یحرموا على أنفسهم الزواج. ولم یبتعدوا عن المشاركة فی الحیاة العامة»(1). وإن كان هنالك بعض من التأثیر، والتأثر فی ذلك(2).


ولربما یكون هذا النحو من الفهم لحقیقة الزهد لدى أهل العراق قد تأثر بالرغبة فی إبعاد هذا الأمر عن أن یكون بتأثیر من أمیر المؤمنین (علیه الصلاة والسلام) فیهم.


ونجد لهذا النحو من السعی لتغییر الحقائق بتأثیر من حب إقصاء علی وأهل بیته صلوات الله وسلامه علیهم وشیعته الأبرار عن دائرة التأثیر تجلیات فی شتى الاتجاهات حیث یجد الباحث أكثر من شاهد ودلیل.


____________



(1) حیاة الشعر فی الكوفة ص199.


(2) حیاة الشعر فی الكوفة ص198 و201.


 













الصفحة 109